ARK NETWORK reference.ch · populus.ch    
 
  
webchahrukhan 
 
 
Rubriques

Liens

 Home  | Livre d'Or  | Album-Photo  | Contact

ع-ك-الخطابي

كان المغرب في
 
بداية القرن العشرين يعاني من ضعف وانقسام شديد، تمثل في انقسام الأسرة 
 
الحاكمة وصراعاتها الداخلية، واستعانة أطراف هذا الصراع للبقاء على العرش بالقوى الخارجية، أما الوجه الآخر فتمثل في التنافس الاستعماري الشرس بين الدول الكبرى للسيطرة على المغرب وتأمين نفوذها ومصالحها فيه، وبخاصة فرنسا التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المغرب، غير أنها وجدت إنجلترا وألمانيا واقفتين لها بالمرصاد؛ فلجأت إلى إرضاء إنجلترا من خلال الاتفاق الودي سنة (1322هـ = 1904م) الذي أطلق يدها في المغرب، أما ألمانيا فاضطرت إلى إعطائها جزءًا من الكاميرون حتى تقر باحتلال فرنسا لمراكش في (13 من ذي القعدة 1329هـ = 4 نوفمبر 1911م). 
 
لم يكن دخول فرنسا مدينة "فاس"، أو إعلان الحماية عليها بالأمر الهين اليسير؛ نظرا لطبيعة البلاد الجبلية ذات المسالك الوعرة، وطبيعة السكان البربر الذين اعتادوا الاحتفاظ باستقلالهم الداخلي أمام جميع الحكومات المركزية، ومن ثَمَّ لم يتم إخضاع البلاد إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاما لعبت فيها شخصية الأمير الخطابي دورا رئيسيا في الجهاد والمقاومة، ووصف أحد الضباط الفرنسيين الكبار هذه المقاومة الباسلة بقوله: "لم تستسلم أية قبيلة دون مقاومة؛ بل إن بعضها لم يُلقِ سلاحه حتى استنفد كل وسائل المقاومة، واتسمت كل مرحلة من مراحل تقدمنا بالقتال، وكلما توقفنا أنشأ المراكشيون جبهة جديدة أرغمت قواتنا سنوات طويلة على الوقوف موقف الحذر واليقظة في موقف عسكري مشين". 
 
وفرض الفرنسيون الحماية على المغرب في (12 ربيع الثاني 1330هـ = 30 مارس 1912م) وبعد أيام قام المغاربة بثورة عارمة في فاس ثار فيها الجيش والشعب، تزعمها المجاهد "أحمد هبة الله"، وكانت الانتصارات فيها سجالا بين الفريقين، وانتهى الأمر بوفاة الرجل، وتمكن الفرنسيون من بسط نفوذهم على المغرب أثناء الحرب العالمية الأولى. 
*********************************************** 
الريف والأسبان
 
كانت منطقة النفوذ الأسباني حسب اتفاقية (1322هـ = 1904م) مع فرنسا تشمل القسم الشمالي من مراكش، التي تنقسم إلى كتلتين: شرقية وتعرف بالريف، وغربية وتعرف بالجبالة، وتكاد بعض جبال الريف تتصل بمنقطة الساحل. وتتميز مناطقها الجبلية بوعورة المسالك وشدة انحدارها، غير أنها أقل خصبا من منطقة الجبالة. وتمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل مسافة 120ميلا وعرض 25 ميلا، وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري، أهمها قبيلة بني ورياغل التي ينتمي إليها الأمير الخطابي. 
 
وعندما بدأ الأسبان ينفذون سياسة توسعية في مراكش، صادفوا معارضة قوية داخل أسبانيا نفسها بسبب الهزائم التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين في الفليبين وكوبا، فعارض الرأي العام الأسباني المغامرات العسكرية الاستعمارية، إلا أن المؤيدين احتجوا بأن احتلال مراكش ضروري لتأمين الموانئ الأسبانية الجنوبية، وضَمَّ رجال الدين صوتهم إلى العسكريين. 
 
وكان الأسبان يعرفون شدة مقاومة أهل الريف لتوسعهم، فاكتفوا في البداية بالسيطرة على سبتة ومليلة، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى احتلال معظم الموانئ الساحلية المحيطة بمنطقة نفوذهم، وكانت خطتهم تقوم على أن تتقدم القوات الأسبانية عبر منطقة الجبالة لاحتلال مدينة تطوان، التي اتُّفق على أن تكون عاصمة للمنطقة الأسبانية، لكن ظهر في الجبالة زعيم قوي هو "أحمد بن محمد الريسوني" الذي حمل لواء المقاومة منذ سنة (1330هـ = 1911م) حتى تولاها منه الأمير الخطابي. 
 
وقد اصطدم الريسوني بالأسبان عندما احتلوا ميناء أصيلة الذي كان يعتمد عليه في استيراد الأسلحة، وبعدها ساروا إلى احتلال مدينة تطوان، فوقعت مصادمات بينهم انتهت بصلح اتفق فيه على أن تكون الجبال والمناطق الداخلية للريسوني، والساحل للأسبان، غير أن الأسبان نقضوا العهد، وطاردوه، وتوغلوا في بلاد الجبالة بخسائر فادحة، واستطاعوا أن يحتلوا مدينة شفشاون أهم مدينة في تلك البلاد في (صفر 1339هـ = أكتوبر 1920م). 
************************************************** 
الأمير الخطابي
 
 
كانت الثورة الثانية ضد الأسبان هي ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل البربر في بلاد الريف، وقد وُلد الأمير سنة (1299هـ = 1881م) في بلدة أغادير، لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم العربية الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بأسبانيا، فحصل منها على درجة الدكتوراه في الحقوق، وبذلك جمع بين الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا بمدينة مليلة التي كانت خاضعة لأسبانيا، وأثر فيه عندما كان قاضيا مشهد ضابط أسباني يضرب عربيا بالسوط في شوارع مليلة، ويستغيث ولا يغاث، عندها رأى الوجه القبيح للاستعمار، وأدرك أن الكرامة والحرية أثمن من الحياة. 
 
وكان الأسبان قد عرضوا على والد الأمير أن يتولى منصب نائب السلطان في تطوان التي تحت الحماية الأسبانية، وأن يقتصر الوجود العسكري الأسباني على المدن، إلا أنه اشترط أن تكون مدة الحماية محددة فلم ينفذ هذا العرض. 
 
وبعد سيطرة أسبانيا على مدينة شفشاون وإخضاع منطقة الجبال، استطاعت أن تركز جهودها وقواتها في بلاد الريف، وأعلنت الحماية على شمال المغرب، فرفض الأب الخضوع للأسبان، وأعلن معارضته للاستعمار، ورفض تقديم الولاء للجنرال الأسباني غوردانا؛ فما كان من الجنرال إلا أن عزل الخطابي عن قضاء مليلة، واعتقله قرابة العام، ثم أطلق سراحه، ووضعه تحت المراقبة، وفشلت إحدى محاولات الخطابي في الهرب من سجنه، فأصيب بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلة ولحق بوالده في أغادير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339هـ = 1920م) فانتقلت الزعامة إلى الابن. 
من القضاء إلى الثورة
 
 
 
 
تولى الأمير الخطابي زعامة قبيلة بني ورياغل، وقياد 
الثورة في بلاد الريف، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فزحف الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلة نحو بلاد الريف، واحتل بعض المناطق دون مقاومة تُذكر، واحتل مدينة أنوال، وتقدم اثني عشر ميلا بعدها؛ فظن أن قبائل بني ورياغل خضعت له، ولم يدرِ أن الأمير الثائر أراد أن يستدرجه إلى المناطق الجبلية ليقضي عليه تماما، وأنه ادخر رجاله لمعركة فاصلة. 
 
بلغ قوام الجيش الأسباني بقيادة سلفستر 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أغادير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في (25 شوال 1339هـ = 1 يوليو 1921م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلة، وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الأسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين، فأبيد معظم الجيش الأسباني بما فيهم سلفستر، واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا، واستولى المغاربة على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعا رشاشا. 
 
ولم ينتبه الخطابي إلى ما أدركه من نصر حاسم؛ إذ لو تابع القتال لما وجد أمامه قوة ولدخل حصن مليلة دون مقاومة تُذكر، ولأنهى الوجود الأسباني في بلاد الريف، غير أنه توقف ظنا منه أن للأسبان قوة، وقد هيأ التوقف للأسبان الفرصة لحشد ستين ألف مقاتل، وقاموا بهجوم معاكس في (10محرم 1340هـ = 12 سبتمبر 1921م)، فاستعادوا بعض ما فقدوه، وبلغ مجموع القوات الأسبانية في ذلك العام ببلاد الريف أكثر من 150 ألف مقاتل، ورغم ذلك أصبح وجود الأسبان مقصورًا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة. 
 
ويعزو الأسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وأرسلت حكومة مدريد لجنة للتحقيق في أسباب هذه الكارثة المدوية، ذكرت أن الأسباب تكمن في إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المراكشيين إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون، وكشف التقرير حالات بيع بعض الضباط لأسلحة الجيش 
من الثورة إلى الدولة
 
بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف، وترسخت زعامته فاتجه إلى تأسيس دولة؛ لذلك دعا القبائل إلى عقد مؤتمر شعبي كبير تُمثَّل فيه جميع القبائل لتأسيس نظام سياسي، ووضْعِ دستور تسير عيه الحكومة، وتم تشكيل مجلس عام عُرف باسم الجمعية الوطنية مُثِّلت فيه إرادة الشعب، واتخذ أول قرار له وهو إعلان الاستقلال الوطني وتأسيس حكومة دستورية جمهورية في (المحرم 1340هـ = سبتمبر 1921م)، وتم وضع دستور لجمهورية الريف مبدؤه سلطة الشعب، ونص الدستور على تشكيل وزارات، ونص على أن رجال الحكومة مسئولون أمام رئيس الجمهورية. 
 
وقد أعلن الخطابي أن أهداف حكومته هي عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء الأسبان عن جميع ما احتلوه، وإقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، والاستفادة من الفنيين الأوروبيين في بناء الدولة، واستغلال ثرواتها؛ فشجع بعض شركات التعدين للعمل في الريف حتى قيل بأن تأييد بعض الأوساط الرأسمالية له في أوروبا إنما كان سببه ارتباط مصالحهم بمشاريع في الريف، كذلك تحول رجاله المقاتلون إلى جيش نظامي، له قواده ومقاتلوه من الفرسان والمشاة المدفعية، وعهد بالوظائف الفنية إلى المغاربة الذين سبق لهم الخدمة في الجيش الفرنسي، وعمل على تنظيم الإدارة المدنية، والإفادة من بعض وسائل الحضارة العصرية؛ فمدّ أسلاك البرق والهاتف وشق الطرق، وأرسل الوفود إلى العواصم العربية ليحصل على تأييدها، وطلب من فرنسا وبريطانيا وبابا الفاتيكان الاعتراف بدولته، وعاصمتهاأجدير (أغادير 
************************************************** 
مسألة سياسة
 
وأثار وضع جمهورية الريف مسألة سياسية هامة أثرت في حياة مراكش، وهو موقف الخطابي من العرش والسلطان المغربي، فنسب البعض إليه أنه اعترف بمبدأ السيادة السلطانية، واستدلوا على ذلك بأنه لم يعلن نفسه سلطانا، غير أن السلاطين من الأسرة العلوية لم يقتنعوا بذلك، واعتقدوا أن دولته تمثل انشقاقا على العرش، واستمر سوء التفاهم هذا بينهم وبين الخطابي حتى عهد السلطان محمد الخامس، ونفى الخطابي أن يكون تطلع إلى عرش مراكش بدليل أنه منع أنصاره من الخطبة باسمه في صلاة الجمعة، وأنه كان مستعدا لقبول الأسرة الملكية الحاكمة، وأن يبايع الوطنيون السلطان الذي يحقق أهدافهم بعد تحرير البلاد 
************************************************* 
الأوضاع الداخلية في أسبانيا
 
أصبحت مشكلة الريف والخطابي هي المشكلة الأولى التي تقلق أسبانيا داخليا وخارجيا، فارتفعت القوات الأسبانية في شمال المغرب بعد شهور من هزيمة أنوال إلى 150 ألف مقاتل، وعرضت مدريد على الخطابي الاعتراف باستقلال الريف بشرط أن يكون استقلالا ذاتيا خاضعا للاتفاقات الدولية التي أخضعت المغرب للنظام الاستعماري، فرفض الأمير الاستقلال تحت السيادة الأسبانية. 
 
وداخليا وقع انقلاب عسكري في أسبانيا في (1 صفر 1342هـ = 12 سبتمبر 1923م) وتسلم الحكم فيه الجنرال بريمودي ريفيرا، فأعلن عن سياسة جديدة لبلاده في مراكش، وهي الانسحاب من المناطق الداخلية والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، وأدرك ريفيرا أن تعدد المواقع الأسبانية المنعزلة أمر بالغ الخطورة؛ لأنها محاطة بالقبائل المغربية. أما الخطابي فلم يكن هناك ما يدفعه إلى مهادنة الأسبان، خاصة بعد وثوقه بقدرته على طردهم، وبعد رفضهم الانسحاب إلى سبتة ومليلة؛ لذلك بدأ في عمليات قتالية باسلة ضد القوات المنسحبة اعتمدت على أساليب حرب العصابات، واعترفت الحكومة الأسبانية في تعدادها الرسمي أن خسائرها في الستة أشهر الأولى من عام (1343هـ = 1924م) بلغت 21250 قتيلا وجريحًا وأسيرًا رغم إشراف الجنرال ريفيرا بنفسه على عمليات الانسحاب. 
 
واستطاع الخطابي أن يبسط نفوذه على الريف، رغم استمالة مدريد لزعيم منطقة الجبالا الريسوني، فزحف على الجبالا، ودخل عاصمتهم سنة (1344هـ = 1925م) وصادر أملاك المتعاونين مع الأسبان، وألقى القبض على الريسوني، واقتاده سجينا إلى أغادين حيث توفي في سجنه، فأصبح زعيم الريف بلا منازع، وسيطر على مساحة تبلغ 28 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها مليون مغربي. 
 
فرنسا.. والريف 
 
وأدرك الأسبان عجزهم الكامل عن مقاومة دولة الريف الناشئة، وقوبلت هذه النتيجة بدهشة كبيرة من الدوائر الاستعمارية التي لم تكن مطمئنة لحركة الخطابي وعلى رأسها فرنسا التي كانت تتوقع أن يتمكن الأسبان يوما ما من القضاء على هذه الحركة، أما الخطابي فكان يحرض على تجنب الاصطدام بالفرنسيين حتى لا يفتح على نفسه جبهتين للقتال في وقت واحد، إلا أن الأوضاع بين الاثنين كانت تنذر بوقوع اشتباكات قريبة. 
 
والمعروف أن فرنسا كانت تخشى من حركة الخطابي أن تكون عاملا مشجعا للثورات في شمال أفريقية، ويرى البعض أن مصالح الرأسمالية التي استثمرت أموالها في بناء ميناء الدار البيضاء الضخم وفي مشروعات أخرى في منطقة ساحل الأطلسي استحسنت بقاء منطقة الريف مضطربة حتى يصعب استخدام الطريق الموصل بين فاس وطنجة، الذي يحول تجارة مراكش إلى ذلك الميناء، واستقرار الأوضاع في الريف سيؤثر سلبا على مصالحها، يضاف إلى ذلك أن الخطابي حرص على دعوة الشركات الأجنبية لاستغلال موارد الريف الطبيعية خاصة البريطانية؛ وهو ما يعني أن تقترب المصالح الرأسمالية البريطانية من المصالح الفرنسية، وتصبح دولة الريف في حالة من الأمان الدولي في ظل التنافس بين هذه المصالح؛ لذلك يقال: إن بعض الأسلحة البريطانية المتطورة في ذلك الوقت بدأت تتدفق على دولة الريف عبر ميناء الحسيمات. 
 
كما أن قيام جمهورية قوية في الريف يدفع المغاربة دفعا إلى الثورة على الفرنسيين، ورفض الحماية الفرنسية؛ لذلك كرهت فرنسا قيام دولة المغاربة مستقلة، وأرسلت تعزيزات عسكرية على الجبهة الشمالية لها في مراكش، وتحينت الفرصة للاصطدام بها والقتال معها، وفشلت محاولات الخطابي للتفاهم مع الفرنسيين للتوصل إلى اتفاق ينظم العلاقة بينهما، فبعث أخاه إلى باريس، وبعث موفدا له إلى السلطات الفرنسية في فاس، لكنهما لم يتوصلا إلى شيء. 
 
الصدام 
 
كان مجموع القوات الفرنسية في مراكش 65 ألف جندي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل منهم 133 ألف مغربي، وفي (رمضان 1343هـ = أبريل 1925م) وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين والخطابي، عندما أمدّ الفرنسيون زعماء الطرق الصوفية بالمال والسلاح ليشجعوهم على إثارة الاضطرابات في دولة الريف، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم، وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين وحسن تنظيمهم وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقعت كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين، فقلقت فرنسا من هذه الانتصارات، وأرسلت قائدها العسكري البارع "بيتان" للاستعانة بخبرته وكفاءته 
************************************************** 
أسبانيا وفرنسا ضد الريف
 
كان صمود جمهورية الريف الناشئة أمام فرنسا وأسبانيا والمناوئين لها من المغاربة أمرًا باهرًا رائعا وحالة نادرة في تاريخ الحروب الاستعمارية، يرجع جوهره إلى كفاءة الزعماء الريفيين في ميدان القتال والحرب؛ فقد استخدم هؤلاء المقاتلون خطوط الخنادق المحصنة على النمط الذي أقامته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ويكفي الريفيين فخرًا أنهم قادوا الحرب ضد ثلاثة ماريشالات وأربعين جنرالا وحوالي ربع مليون مقاتل فرنسي وأسباني ومغاربي مدعمين بالطائرات والمدرعات وتحت إشراف رؤساء حكوماتهم. 
 
وقد اتخذت فرنسا بعض الإجراءات لتدعيم موقفها في القتال، فأغرت السلطان المغربي بأن يعلن الخطابي أحدَ العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، ففعل السلطان ما أُمر به، وقام برحلة إلى فاس لتأليب القبائل على المجاهدين، كذلك نسقت خططها الحربية مع حكومة مدريد، وعقد مؤتمر لهذا الغرض اتفق فيه على مكافحة تجارة السلاح بين الريف وأوروبا، وسمع بتتبع الثائرين في مناطق كل دولة، وتعهدت باريس ومدريد بعدم توقيع صلح منفرد مع الخطابي. 
 
واتفق الأسبان والفرنسيون على الزحف على جمهورية الريف بهدف تحقيق اتصال عسكري بين الدولتين وخرق الريف، وتقسيم قواته إلى جزأين؛ وهو ما يعرضهم لموقف عسكري بالغ الحرج، إلا أن قدوم الشتاء ببرودته أجَّل هذا الزحف وبعض العمليات العسكرية، وخسر الخطابي في تلك المعارك حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل. اتسعت الحرب في (1344هـ = 1926م) وتجدد الزحف والتعاون العسكري التام بين باريس ومدريد مع تطويق السواحل بأساطيلهما، وقلة المؤن في الريف؛ لأن معظم المقاتلين في صفوف الخطابي من المزارعين، وهؤلاء لم يعملوا في أراضيهم منذ أكثر من عام، وهم يقاتلون في جبهة تمتد إلى أكثر من 300 كم. 
 
ولجأ الفرنسيون إلى دفع المغاربة المتعاونين معهم إلى توجيه دعوة للقبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو أسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي أن الحكمة تقتضي وقف القتال رحمة بسكان الريف وقبائله قبل أن تلتهمهم الحرب، وقبلها الجشع الفرنسي والأسباني والخائنون من المغاربة. 
 
وقد فكر الرجل أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن أرضه ودينه، إلا أن رفاقه منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا، ورأى تسليم نفسه للفرنسيين على أنه أسير حرب، واقتحم بجواده الخطوط الفرنسية في مشهد رائع قلّ نظيره في (12 ذي القعدة 1344هـ = 25 مايو 1926م) واستمر القتال بعد فترة. أما هو فنفته فرنسا إلى جزيرة ريونيون النائية في المحيط الهادي على بعد 13 ألف كيلو متر من موطنه الذي شهد مولده وجهاده. 
 
وطال ليل الأسر والنفي بالخطابي وأسرته وبعض أتباعه نيفا وعشرين سنة، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن الكريم في تلك الجزيرة الصخرية، عانى فيها قلة المال، فآثر أن يعمل بيديه لتأمين معيشته هو وأسرته، فاشترى مزرعة، وجاهد فيها كسبا للعيش، ولم تفلح محاولاته بأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية؛ لأن فرنسا كانت تعلم أن الرجل يحمل شعلة الحرية في قلبه وهي لم تنطفئ، كما أن كلماته عن تقرير المصير هي عبارات محشوة بالديناميت تفجر الثورات وقبلها نفوس الأحرار. 
 
وفي عام (1367هـ = 1947م) قررت فرنسا نقل الخطابي وأسرته إليها لتضغط به على الملك محمد الخامس لمطالبته الدائمة بالاستقلال، غير أنها استجارت من الرمضاء بالنار، فعندما وصلت الباخرة التي تقله إلى ميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية، فرحبت القاهرة ببقاء هذا الزعيم الكبير في أراضيها، واستمر بها حتى وفاته في (1382هـ = 1963م). 
 
أهم المصادر والمراجع: 
 
علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي - مطبعة الرسالة - القاهرة - الطبعة الأولى - 1368هـ = 1948م.  
 
صلاح العقاد: المغرب العربي - مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة - الطبعة السادسة 1993.  
 
قدري قلعجي: ثمانية أبطال من العرب - شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - لبنان - الطبعة الأولى - 1995م 
عند الفجر : 
البمبوطية خطفوا الأمير من مختطفيه !
 
المخلوطة بالدماء والعرق وجهد رجال شاء القدر أن يحملوا علي كاهلهم تحويل أحلام الشعوب إلي واقع يعيشه الجميع.. ولأن التاريخ صفحات تطوي وتحول هؤلاء الأشخاص إلي أساطير.. ومهما كتب عنهم لن يوفي حقهم.. وقد استطاع المصور الصحفي الفنان رشاد القوصي أن يسجل لحظات لواحد من الأساطير والذي أسهم بدور بارز في مسيرة كفاح بلاده (المغرب).. 
انه الأمير عبد الكريم الخطابي.. وكانت هذه اللحظات من ذاكرة الكاميرا. 
عبد الكريم الخطابي.. بطل تحرير المغرب الأقصي
 
 
 
الشخصية في سطور: 
 
- ولد "محمد بن عبد الكريم الخطابي" في بلدة (أغادير) بالمغرب الأقصى سنة (1300هـ= 1822م). 
 
- نشأ في أسرة كريمة تحت كنف والده الذي كان يتزعم قبيلة بني ورياغل. 
 
- تلقى تعليمه في جامعة القيروبين؛ حيث درس العلوم الشرعية واللغوية. 
 
- تولى منصب القضاء الشرعي في مدينة مليلة. 
 
- تولى زعامة قبيلته بعد وفاة والده، وقاد ثورة الريف ضد الإسبان. 
 
- حقق انتصارًا عسكريًّا هائلاً على الإسبان في معركة أنوال سنة 1921م. 
 
- أقام دولة في منطقة الريف، ووضع لها دستورًا، وأسس لها جمعية وطنية. 
 
- اجتمعت فرنسا وإسبانيا على حربه، وتمكنا من هزيمة قواته. 
 
- اضطر الأمير عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام للقوات الفرنسية. 
 
- تم نفي الأمير إلى إحدى جزر المحيط الهندي سنة 1926م وظل بها أكثر من عشرين عامًا. 
 
- التجأ الخطابي إلى القاهرة سنة 1947م، واتخذها وطنًا له. 
 
- وفي فترة إقامته بالقاهرة كان يتابع نشاط المجاهدين من أبناء المغرب العربي من خلال لجنة تحرير المغرب، التي أسسها وتولى رئاستها. 
 
- ظل الخطابي مقيمًا بالقاهرة حتى وفاته سنة (1382هـ= 1963م). 
 
 
 
توطئة: 
 
تقاسمت إسبانيا وفرنسا النفوذ في المغرب التي كانت تعاني من ضعف وانقسام وصراع داخلي، واستعانة بالقوى الخارجية، وترتب على هذا التقسيم أن صار القسم الشمالي من مراكش خاضع للسيطرة الإسبانية، وهذا الجزء ينقسم بدوره إلى قسم شرقي يعرف ببلاد الريف، وغربي يعرف بالجبالة، وتمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل لمسافة تبلغ 120 ميلاً، وتمتد عرضًا لمسافة 25 ميلاً، وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري، يأتي في مقدمتها قبيلة بني ورياغل، التي ينتمي معظمها إلى أصل بربري، يأتي في مقدمتها قبيلة بني ورياغل، التي ينتمي إليها الأمير الخطابي، الذي قاد الثورة ضد الإسبان، وأقام دولة ناشئة، وحقق انتصارات عظيمة. 
 
 
 
النشأة والتكوين: 
 
ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة (1300هـ= 1822م) في بلدة أغادير المغربية، ونشأ تحت كنف والده، الذي كان يتزعم قبيلة "بني ورياغل"، وقد حفظ الصبي الصغير القرآن الكريم، ثم أرسله أبوه إلى جامعة القيرويين بمدينة (فاس) لدراسة العلوم الشرعية واللغوية، وبعد تخرجه في الجامعة عاد إلى مليلة، واشتغل بالقضاء الشرعي، وفي الوقت نفسه عمل في تحرير جريدة "تلغراف الريف"، واتصل بالإسبان في شمالي مراكش، وقد ساعد كل ذلك على تكوين شخصية الأمير الذي كانت الأقدار تعد له أعظم المهام وقيادة إقليمه في مواجهة الاستعمار الإسباني والفرنسي. 
 
وبعد إعلان إسبانيا الحماية على شمال المغرب، وتطلعها إلى التهام منطقة الريف، اصطدمت بوالد الخطابي زعيم قبيلة بني ورياغل، الذي رفض الخضوع للإسبان، وتقديم فروض الولاء للجنرال الإسباني "غودرانا"، وأدى هذا الخلاف إلى قيام الإسبان بعزل الخطابي الابن عن القضاء، وسجنه نحو عام، ولما خرج من معتقله وجد أباه يعد العدة لقتال الإسبان، لكن الموت لم يمكنه من تحقيق أمنيته، فتوفي في سنة (1339هـ= 1920م)، وخلفه ابنه الأمير عبد الكريم الخطابي في زعامة قبيلته. 
 
 
 
من القضاء إلى إشعال الثورة: 
 
كان الأمير الخطابي في التاسعة والثلاثين حين تولى مقاليد الأمور في منطقة الريف، قد حنكته التجارب، وأصقلته الأيام، ووحد هدفه، فاستكمل ما كان أبوه قد عزم على القيام به من مواصلة الجهاد، وإخراج الإسبانيين من البلاد. 
 
وفي تلك الأثناء كان الجنرال "سلفستر"- قائد قطاع مليلة- يزحف نحو بلاد الريف؛ ليحكم السيطرة عليها، ونجح في بادئ الأمر في الاستيلاء على بعض المناطق، وحاول الأمير عبد الكريم الخطابي أن يحذر الجنرال "سلفستر" من مغبة الاستمرار في التقدم، والدخول في مناطق لا تعترف بالحماية الإسبانية الأجنبية، لكن الجنرال المغرور لم يأبه لكلام الأمير، واستمر في التقدم ممنيًا نفسه باحتلال بلاد الريف. 
 
كانت قوات الجنرال الإسباني تتألق من أربعة وعشرين ألف جندي مجهزين بالأسلحة والمدفعية، ولم تصادف هذه القوات في زحفها في بلاد الريف أي مقاومة، واعتقد الجنرال أن الأمر سهلاً، وأعماه غروره أن رجال عبد الكريم الخطابي يعملون على استدراج قواته داخل المناطق الجبلية المرتفعة، واستمرت القوات الإسبانية في التقدم وتحقيق انتصارات صغيرة؛ حتى احتلت مدينة أنوال في (7 من رمضان 1339هـ= 15 من مايو 1921م). 
 
بعد ذلك بدأ رجال عبد الكريم الخطابي هجومهم على كل المواقع التي احتلها الإسبانيون، وحاصروا هذه المواقع حصارًا شديدًا، وفشل الجنرال في رد الهجوم، أو مساعدة المواقع المحاصرة، وأصبحت قواته الرئيسة، التي جمعها في "أنوال" مهددة، بعد أن حاصرها وطوقها رجال الريف، وحين حاول الانسحاب بقواته اصطدم بقوات الخطابي في (16 من ذي القعدة 1339هـ= 22 من يوليو 1921م) في معركة حاسمة عُرفت بمعركة (أنوال)، وكانت الهزيمة الساحقة للقوات الإسبانية؛ حيث أبيد معظم الجيش المحتل، وأقر الإسنان بأنهم خسروا في تلك المركة 15 ألف قتيل يتقدمهم الجنرال "سلفستر"، ووقع في الأسر 570 أسيرًا، غير الغنائم من الأسلحة التي وقعت في أيدي المجاهدين. 
 
ما إن زاع خبر انتصار الخطابي ورجاله في معركة (أنوال)، حتى هبت قبائل الريف تطارد الإسبان أينما وُجدوا، ولم يمض أسبوع إلا وقد ظفر الريف عليهم، وأصبح وجود الإسبان مقتصرًا على مدينة "تطوان" وبعض الحصون في منطقة الجبالة. 
 
 
 
من الثورة إلى بناء الدولة: 
 
بسط الأمير الخطابي سلطته على بلاد الريف بعد جلاء الإسبان عنه، واتجه إلى تأسيس دولة منظمة دون أن يتنكر لسلطان مراكش، أو يتطلع إلى عرشه بدليل إنه منع أنصاره من الدعاء له في خطبة الجمعة. 
 
وأعلن الخطابي أن أهداف حكومته تتمثل في عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية على المغرب، وجلاء الإسبان من المناطق التي احتلوها، وإقامة علاقة طيبة مع جميع الدول، والاستعانة بالخبراء الأوربيين في بناء الدولة، وقام بتحويل رجاله المقاتلين إلى جيش نظامي على النسق الحديث، وعمل على تنظيم الإدارة المدنية، وقام بشق الطرق ومد سلوك البرق والهاتف، وأرسل وفودًا إلى العواصم العربية للحصول على تأييدها، وطلب من بريطانيا وفرنسا والفاتيكان الاعتراف بدولته. 
 
وفوق ذلك كله دعا إلى وضع دستور تلتزم به الحكومة، وتم تشكيل مجلس عام عرف باسم الجمعية الوطنية، كان أول قرارته إعلان الاستقلال الوطني، وتأسيس حكومة دستورية لقيادة البلاد. 
 
 
 
صدى الهزيمة في إسبانيا: 
 
كان من أثر هذه الهزيمة المدوية أن قام انقلاب عسكري في إسبانيا بقيادة "بريمودي ريفيرا" سنة  
(1342هـ= 1923م)، لكن هذا لم يغير من حقيقة الأوضاع في المغرب، ولم تعلن الحكومة الجديدة إنهاء احتلالها للمغرب؛ الأمر الذي دعا الأمير الخطابي إلى مواصلة الجهاد ضدها، فقام بهجوم عام سنة 1924م على مدينة "تطوان"، لكنها لم تسقط في يده على رغم من وصول جنوده إلى ضواحيها، واضطرت القوات الإسبانية إلى الانسحاب من المناطق الداخلية، والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، كما أنها أخلت مواقعها في إقليم "الجبالة"، في أواخر سنة (1343هـ= 1924م) بعد أن ثبت لها عجزها عن الاحتفاظ بهذا الإقليم أمام هجمات الأمير الخطابي. 
 
 
 
سياسة فرنسا مع الخطابي: 
 
فوجئ الفرنسيون بانتصار الخطابي على الإسبان، وكانوا يتمنون غير ذلك، كما فجعوا بانسحاب القوات الإسبانية من إقليم جبالة كله؛ ولذا قرروا التدخل في القتال ضد الخطابي ولمصلحة الإسبان، وكانت فرنسا تخشي من أن يكون نجاح الخطابي في ثورته عاملاً مشجعًا للثورات في شمال إفريقيا ضدها، كما أن قيام جمهورية قوية في الريف يدفع المغاربة إلى الثورة على الفرنسيين ورفض الحماية الفرنسية. 
 
واستعرت فرنسا لمحاربة الخطابي بزيادة قواتها الموجودة في مراكش، وبدأت تبحث عن مبرر للتدخل في منطقة الريف، فحاولوا إثارة الأمير الخطابي أكثر من مرة بالتدخل في منطقته، وكان الخطابي يلتزم الصمت أمام هذه الاستفزازات؛ حتى لا يحارب في جبهتين، ويكتفي باستنكار العدوان على الأراضي التابعة له، ثم قام الفرنسيون بتشجيع رجال الطرق الصوفية على إثارة بعض القلاقل والاضطرابات في دولة الريف، فلما تصدى لهم الأمير الخطابي تدخلت فرنسا بحجة حماية أنصارها، واندلع القتال بين الخطابي والفرنسيين في (رمضان 1343هـ= إبريل 1925م)، وفوجئ الفرنسيون بالتنظيم الجيد الذي عليه قوات الأمير الخطابي، وببسالتهم في القتال، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع طيلة أربعة أشهر، وأصيبت بعض مواقعهم العسكرية بخسائر فادحة. 
 
 
 
استسلام الأمير عبد الكريم الخطابي: 
 
لم يعد أمام الدولتين الكبيرتين (فرنسا وإسبانيا) سوى أن يجتمعا على حرب الأمير الخطابي، وأُعد لهذا الأمر عدته بالإمدادت الهائلة لقواتهما في المغرب، والإنزال البحري في مكان قرب (خليج الحسيمات)، الذي يمتد في قلب بلاد الريف، وأصبح على الأمير الخطابي أن يواجه هذه الحشود الضخمة بقواته التي أنهكها التعب والقتال المستمر، فضلاً عن قلة المؤن التي أصبحت تهددها. 
 
وبالإضافة إلى ذلك لجأت فرنسا إلى دعم موقفها في القتال، فأغرت السلطان المغربي بأن يعلن أن الخطابي أحد العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، ففعل السلطان ما أمر به، كما قامت بتحريض بعض قبائل المجاهدين على الاستسلام، فنجحت في ذلك. 
 
وكان من نتيجة ذلك أن بدأت الخسائر تتوالى على الخطابي في المعارك التي يخوضها، ويمكن الإسبان بصعوبة من احتلال مدينة (أغادير) عاصمة الأمير الخطابي، ثم تمكنت القوات الإسبانية والفرنسية من الاستيلاء على حصن (ترجست)، الذي اتخذه الأمير مقرًّا له بعد سقوط (أغادير) في (11 من ذي القعدة 1344هـ= 23 من مايو1926م). 
 
واضطر الأمير "عبد الكريم الخطابي" إلى تسليم نفسه إلى السلطات الفرنسية باعتباره أسير حرب بعد أن شعر بعدم جدوى المقاومة، وأن القبائل قد أُنهكت، ولم تعد مستعدة لمواصلة القتال.. وقد قامت فرنسا بنفي الأمير المجاهد إلى جزيرة نائية في المحيط الهندي. 
 
وفي تلك الجزيرة عاش الأمير المجاهد مع أسرته وبعض أتباعه أكثر من عشرين عامًا، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن، وفشلت محاولاته لأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية. 
 
 
 
الإقامة بالقاهرة: 
 
وفي سنة (1367هـ= 1947م) قررت فرنسا نقله إليها على متن سفينة، فلما وصلت إلى ميناء بورسعيد تمكَّن بعض شباب المغرب المقيمين في مصر من زيارته على متن السفينة، ورجوه أن يتقدم باللجوء إلى مصر ليواصل مسيرة الجهاد من أجل تحرير المغرب، فوافق على هذا الرأي شريطة أن توافق الحكومة المصرية على طلبه، كما لاقاه وفد من جماعة الإخوان المسلمين مرحبين به. 
 
وتمت الموافقة على طلبه على الرغم من احتجاج السفير الفرنسي في مصر، وبدأ "الخطابي" عهدًا جديدًا من النضال الوطني من أجل تحرير بلاده، وأسس مع أبناء المغرب العربي لجنة أطلقوا عليها "لجنة تحرير المغرب العربي"، تولى هو رئاستها في (25 من المحرم1367 هـ= 9 من ديسمبر 1947م). 
 
وفي أثناء إقامته توطدت الصلة بينه وبين الإمام الشهيد "حسن البنا"، وتكررت اللقاءات بينهما في اجتماعات عامة وخاصة، وكان يكثر التردد على المركز العام لجماعة الإخوان، ويحرص على صلاة المغرب خلف الإمام "البنا"، وكانت صحف الإخوان تفتح صحفاتها لأخبار المغرب العربي، وتعريف الناس بقضيته، وفضح الأساليب الاستعمارية التي يسلكها المحتل مع أبناء هذا الوطن العزيز، ولما استشهد الإمام "البنا" برصاص الغدر، كتب الأمير "عبد الكريم الخطابي": "ويح مصر! وإخوتي أهل مصر! مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم ولي من أولياء الله.. تُرى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم؟! بل في غرتهم "حسن البنا"، الذي لم يكن في المسلمين مثله". 
 
 
 
وفاته: 
 
ظل الأمير "عبد الكريم الخطابي" مقيمًا في القاهرة، يتابع نشاط المجاهدين من أبناء المغرب العربي المقيمين في القاهرة، ويمدهم بنصائحه وإرشاداته، حتى لقي ربه في (1 من رمضان 1382هـ= 6 من فبراير 1963م). 
 
 
 
أهم المراجع: 
 
• جلال يحيى: عبد الكريم الخطابي– دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة (1963م). 
 
• علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي- مطبعة الرسالة- القاهرة (1368هـ= 1948م). 
 
• أنور الجندي: تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي– مكتبة الأنجلو المصرية– القاهرة (1970م). 
 
• عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة- الكويت (1422هـ= 2001م). 
 
• الهيثم الأيوبي وآخرون: الموسوعة العسكرية- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت (1985م). 
بطل الريف الأمير عبدالكريم الخطّابي
 
هو عبدالكريم الخطّـابي زعيم ومجاهد إسلامي من بلاد الريف بالمغرب الأقصى، من قبيلة "بني ورغايل" الريفية من قبائل "الأمازيغ" ولد سنة 1300هـ (1882م)، أي في الفترة التي شهدت حدّة التنافس بين الدول الأوروبية المستعمرة على القارة الإفريقية. 
تلقى الأمير دراسته الأولية بجامعة "القيروان"، واطلع على الثقافة الغربية، واصطدم بالإدارة الإسبانية في "مليلة"، فسجن، غير أنه تمكّن من الفرار من سجنه وعاد إلى مسقط رأسه، وتزعّم قبيلته بعد وفاة والده سنة 1339هـ (1920م)، وحمل راية الجهاد، فأباد ورجاله جيشاً إسبانياً يتكون من أربعة وعشرين ألف مقاتل بقيادة الجنرال "سلفستر" سنة 1340هـ (1921م)، وذلك في معركة (أنوال) المشهورة، وبذلك تمكّن من السيطرة على بلاد الريف، ومنطقة عمارة، واتخذ "أغادير" عاصمة له. 
أما النفوذ الإسباني، فقد اقتصر على مدينة "تطوان"، وعلى بعض الحصون في الجبال القريبة منها، وفي هذه الأثناء، قامت في إسبانيا دكتاتورية "بريمودي ريفيرا" سنة 1342هـ (1923م)، فأرسلت قوات جديدة إلى الريف لمحاربة الأمير الخطابي، بلغت مائة وخمسين ألف مقاتل بقيادة الجنرال "بيرنجر"، وقد رفض الخطابي العروض الإسبانية بالاعتراف باستقلال الريف تحت سيادته بحماية إسبانية، ثم هزم الإسبان، وطاردهم سنة 1343هـ (1924م)، حتى مدينة (تطوان)، وقد بلغت حكومة الأمير الخطابي ذروة قوتها عام 1344هـ (1925م)، وأصبح مضرب المثل في جهاده ضد الاستعمار الأوروبي، ومازال اسم عبدالكريم رمزاً للرعب في اللغة الإسبانية، ولقد تمكَّن الخطابي أيضاً من أن يهزم القوات الفرنسية في معركة "تازا" سنة 1344هـ (1925م)، فعملت فرنسا على إضعافه عن طريق إشاعة أنه يطمع في عرش مراكش، ونسَّقت دعايتها مع الحكومة الإسبانية، كما ضمنت معاونة إيطاليا وصمت بريطانيا، وقد أحدث هذا انقساماً في صفوف المجاهدين، وتحالف بعض أتباع الطرق الصوفية مع القوة المعادية، حيث تحالف أتباع الشيخ عبدالحي الكتاني والشيخ عبدالرحمن الدرقاوي مع الفرنسيين، وبلغ عدد القوات الفرنسية والإسبانية التي واجهت الأمير الخطابي مائتين وثمانين ألف جندي، مما اضطره إلى التسليم للفرنسيين سنة 1345هـ (1926م) الذين نفوه إلى جزيرة "ريونيون" إحدى جزر المحيط الهندي، حيث قضى في منفاه هذا إحدى وعشرين سنة. 
لجوؤه إلى مصر 
وفي عام 1367هـ (1947م) قررت فرنسا نقله إليها على متن سفينة عبر قناة السويس، فتمكن من الفرار داخل مصر، بتحريض من شباب المغرب وتونس والجزائر، المقيمين في مصر والمنضوين في مكتب المغرب العربي بالقاهرة، حيث زاروه على السفينة وأطلعوه على أوضاع المغرب العربي الكبير، وحدّثوه عن نشاطهم من خلال المكتب بالقاهرة، ورجوه أن يتقدم باللجوء إلى مصر للاستمرار في مواصلة الكفاح والنضال من أجل تحرير المغرب العربي الكبير، تحت راية واحدة، تناهض الاستعمار، وتتصدى له، فانشرح صدر الزعيم الخطابي لكلامهم، ووافق على اللجوء إلى مصر، بشرط موافقة الحكومة المصرية. 
بذل الأمين العام للجامعة العربية ـ الأستاذ عبدالرحمن عزام ـ جهوداً مكثفة مشكورة، حتى تمّت موافقة الحكومة المصرية على لجوئه السياسي إلى مصر، حيث بدأ بعد استقراره بالقاهرة يمارس نشاطه من أجل استقلال بلاد المغرب العربي الكبير، وفي القاهرة، أسس الخطابي وأبناء المغرب العربي الكبير، لجنة أسموها "لجنة تحرير المغرب العربي"، وذلك يوم 9-12-1947م، واختير الأمير رئيساً لها، وأصدرت اللجنة بياناً جاء فيه: 
"في عصر تجهد فيه الشعوب بالاضطلاع بمستقبلها، حيث إن بلدان المغرب العربي تتطلع إلى استرجاع استقلالها المغتصب وحريتها المفقودة، يصبح من الضرورة الملحة لكل الزعماء السياسيين في المغرب أن يتوحدوا، ولكل الأحزاب التحررية أن تتحالف وتتساند، لأنه في هذا تكمن الطريق التي سوف تقودنا إلى تحقيق أهدافنا وآمالنا على ضوء مبادئ الإسلام والعروبة والاستقلال الشامل ورفض أي حل متواطئ مع المستعمر..." انتهى. 
وقد مكنته إقامته في مصر من اللقاءات الكثيرة والمتكررة مع زعماء العالم العربي والإسلامي، أمثال الحاج محمد أمين الحسيني، الذي كان قد سبقه باللجوء إلى مصر، ومحمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني، ومحيي الدين القليبي، ومحمد علال الفاسي، وغيرهم من الزعماء العرب والمسلمين، كما كانت له صلة وثيقة وعميقه مع الإمام الشهيد حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، حيث كان كثير اللقاء به في اجتماعات خاصة وعامة، في مكتب المغرب العربي، والمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة. 
وكان الخطابي يُكثر التردد على المركز العام للإخوان المسلمين، ويحرص على صلاة المغرب خلف الإمام الشهيد حسن البنا، وكانت مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، وجريدة "الإخوان المسلمون" اليومية، تنشر المقالات الطوال عن أخبار وأحوال المغرب العربي، كما أصدرت المجلة الأسبوعية للإخوان المسلمين عدداً خاصاً عن المغرب الجريح، نددت فيه بالسلطات الاستعمارية الفرنسية، وأشادت بجهود زعماء المغرب العربي وعلى رأسهم البطل الشجاع عبدالكريم الخطابي. 
يروي الدكتور توفيق الشاوي فيقول: "حين زرت الأمير عبدالكريم الخطابي بمكتب المغرب العربي بالقاهرة، وجلست أستمع إليه، كان حديثه عن جهاد المستعمرين وإصراره على أن هناك سبيلاً واحداً للحرية، هو القتال المسلح لتحرير البلاد والعباد، وكل ما عداه عبث وضياع..." انتهى. 
مجالس العلماء والمجاهدين : ولما توجَّهت إلى مصر للدراسة الجامعية سنة 1369هـ (1949م)، كنت مع إخواني الزملاء من طلبة البعوث الإسلامية الوافدين من أنحاء العالم العربي والإسلامي، نكثر الزيارة والتردد على مجالس العلماء والأدباء والقادة والزعماء في مكاتبهم ومنتدياتهم وجمعياتهم وبيوتهم للتعرف إليهم والاستفادة منهم، كالمركز العام للإخوان المسلمين، وجمعية الشبان المسلمين، ورابطة العلماء الجزائريين برئاسة البشير الإبراهيمي، ومكتب المغرب العربي برئاسة الأمير الخطابي، ودار الشورى للزعيم الفلسطيني محمد علي الطاهر، وصحيفة أنصار السنة، برئاسة محمد حامد الفقي، وجمعية الهداية الإسلامية برئاسة محمد الخضر حسين، ودار الفتح لمحب الدين الخطيب، والاتحاد اليمني، برئاسة محمد محمود الزبيري، ومجلس السفير الأفغاني محمد صادق المجددي، والجمعية الشرعية برئاسة الشيخ عيسى عاشور، فضلاً عن ندوة الشيخ أبي محمد زهرة وأحمد حمزة، وندوة عباس محمود العقاد، ومحمود شاكر، ودار الرسالة لأحمد حسن الزيات، ودار الشهيد سيد قطب بحلوان، ومكتبة وهبة حسن وهبة وغيرها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 

(c) organisation - Créé à l'aide de Populus.
Modifié en dernier lieu le 7.03.2005
- Déjà 21582 visites sur ce site!